سابقة منشورة بمجلة 1971
سابقة منشورة بمجلة 1971
المحكمة العليا
القضاة
صاحب السعادة السيد/ خلف الله الرشيد رئيس المحكمة العليا رئيساً
سعادة السيد/ صلاح الدين شبيكة قاضي المحكمة العليا عضواً
سعادة السيد/ هنري رياض سكلا قاضي المحكمة العليا عضوا
حكومة السودان ضد أحمد عبد العزيز يوسف وآخر
م ع/م ك/25/72
المبادئ
قانون الإثبات – الاعتراف القضائي – الأخذ بجزء من الاعتراف القضائي
قانون العقوبات – حق الدفاع عن النفس – إثبات حق الدفاع بمستوى الترجيح أو إثارة الشك حول نشوئه – المعركة المفاجئة والتكافؤ فيها – القصد الجنائي وحالة السكر
(1)
إذا وجد من البينات ما يثبت عدم صحة جز من الاعتراف القضائي جاز إغفال ذلك الجزء وأخذ ما يتبقى منه
(2)
يكفي لإثبات حق الدفاع الشرعي عن النفس مجرد الترجيح أو قيام الحق
(3)
تكافؤ المعركة أو عدمه لا أثر له في اعتبار أن تلك المعركة مفاجئة إذ الأمران يختلفان
(4)
لا يكون القصد الجنائي لدى السكران كذلك الذي لدى لشخص المكتمل الوعي والسكر سبب كاف لعدم تطبيق العقوبة القصوى
كان المتهمان والمجني عليه يعملون في حراسة أرض زراعية بجهة أم شوكة وكانوا يقيمون جميعا في نفس المكان
في ليلة الحادث كانوا أربعة جلسوا يتعاطون شرابا بلديا مسكرا ويقامرون حتى إذا فرغوا مما كانوا فيه ولسبب لم يتضح للمحكمة هاجم المجني عليه المتهم الأول كان المجني عليه يحمل فأسا صغيرة "فرار" تلقى المتهم الأول هجوم المجني عليه واستطاع أن يصرف ضربة الفأس بحربة بل ضرب المجني عليه بمجراف (كدنكة) سقط المجني عليه بعدها على الأرض توالى الضرب على المجني عليه بعد سقوطه من البقية وتركوه وذهبوا في حالهم
جاء في تقرير الطبيب أن المجني عليه توفى نتيجة الضرب وأن ضربه قد أحدثت كسرا في الجمجمة وأثرت في المخ
توفى المتهم الثالث قبل المحاكمة
الحكم
24/6/1972
حوكم المتهمان أمام محكمة كبرى بسنجة بتاريخ 16/1/1972 وأدينا بموجب المادتين 97/251 وحكم عليهما بالإعدام شنقا حتى الموت
تلخص وقائع هذه القضية في الآتي
في يوم 26/5/1971 وجد المدعو إبراهيم أبو القاسم القتيل محجوب الذي يعرف باسم والده وقد فارق الحياة في داخل عشة (قطية) بأم شوكة وقد لاحظ إبراهيم المذكور أن القتيل مضروبا
اتضح من التحريات الأولية أن المتهمين وكان عددهم ثمانية أشخاص كانوا يعملون حراساً في جروف البطيخ بأم شوكة وكان المجني عليه أحدهم وثبت أن جميعهم أو بعضهم بما في ذلك القتيل كانوا يلعبون الميسر في ليلة 25/5/1971 في منزل المجني عليه وكانوا يتعاطون الخمور البلدية "العرقي" (صفحة 22 من المحضر) وفي نهاية الجلسة خرج المتهم الأول بعدما أخذ حرابه وتبعه المجني عليه وبيده فأس صغيرة "فرار" وتبع المجني عليه المدعو عبد الله بابكر وكان أحد المتهمين إلا أنه توفى قبل المحاكمة
استطاع أن يثبت لدى المحكمة القتيل هاجم المتهم الأول وكان يريد ضربه بالفأس ولكن المتهم الأول صرف الضربة بالحربة فسقط الفأس من يد المجني عليه عبد الله بابكر أخذ مجرافا "كدنكة" معروض اثبات) وضرب بها المجني عليه على الرأس والظهر وقع المجني عليه اعترف المتهم الأول بأنه ضرب المجني عليه "بالكدنكة" وعلى رأسه بالجزء المبلط منها وبعد ذلك فر المتهمون
جاء في القرار الطبي (معروض اثبات 4) بعد تشريح جثة القتيل
أولاً: أن هناك سبعة جروح عميقة بالجانب الأيمن من الرأس
ثانياً: أن الأذن اليمنى مقطوعة
ثالثا: وجد جرح طوله بوصة وعمقه بوصتان ونافذ بعظم الجمجمة وتسبب في خلط بالمخ
وفي رأي الطبيب أن سبب الوفاة يرجع إلى خلط بالمخ الشيء الذي أدى إلى توقف حركات الجسم وإلى نزيف خارجي أدى بدوره إلى فقدان الدم بالمخ "أنيميا"
اعتمدت المحكمة على اعتراف المتهمين فقط وعلى البينات النقلية وفي ضوء هذه الوقائع قضت بإدانة المتهمين بجريمة القتل العمد بالاشتراك ولم تجد ما يبرر استعمال أي من الاستثناءات في المادة 249 من قانون العقوبات ونحن نختلف مع المحكمة فيما توصلت إليه للأسباب الآتية:-
استعرضت المحكمة استثناءين فقط من الاستثناءات الواردة في المادة 249 هما الاستثناء الثاني والرابع: حق الدفاع الشرعي عن النفس والمعركة المفاجئة – وكان الجدير بالمحكمة أن تناقش كل الاستثناءات الأخرى ذات العلاقة بالموضوع وهي الاستثناء الأول والثاني والرابع على التوالي ونستعرض ذلك فيما يلي
النقطة الأولى:
هل تعرض المتهمان إلى إستفزاز شديد مفاجئ من جانب المجني عليه؟
يبدو من الظروف التي لابست الحادث وقد وضحت للمحكمة في ملخص الوقائع الظاهرة أن المتهمين والمجني عليه وغيرهم ومن بينهم المرحوم عبد الله بابكر الذي توفى قبل المحاكمة كانوا يقامرون ويتعاطون الخمر – ولعلهم يشربون من رابعة النهار ويظهر من أقوال كل من كراع مريم وحسن علي وجادين هارون في يومية التحري يوم 7/1/1971 بعد فتح البلاغ بيوم واحد (ص 3 وما بعدها) أن المتهمين في يوم الحادث اشتركا في معركة أخرى مع صاحبة الانداية التي تدعى التومة وزوجها وأن المتهم الأول أخذ شرابا بلديا "مريسة" من التومة المذكورة في جالون وذهب إلى منزله وأن المجني عليه أيضا اشترى نفس الشراب وذهب به لمقره هذه هي خلفية الأحداث الأخيرة ولكن المحكمة لم تر ما يستوجب أخذ أقوال الشاهد كراع مريم وإخوانه واكتفت باعتراف المتهمين وليت المحكمة قد استمعت إلى أقوال كراع مريم وأصحابه كشهود اتهام – وقد أطلق سراحهم في يوم 10/9/1971- إذ لو استمعت إلى تلك الأقوال لكفت نفسها مؤونة الاستنتاج ثم أن المتهم الأول لم يستجوب بطريقة توضح كل خلفية الموضوع وقد ورد في أقواله في يومية التحري (ص 25) أن عبد الله بابكر الذي توفى كسب من المجني عليه مبلغ خمس جنيهات في المقامرة ولما دون اعترافه لم يسأله القاضي عن ذلك وهذا تقصير شديد من جانب القاضي الذي دون الاعتراف ومن جانب المحكمة وتقول المحكمة في (ص 22) من المحضر ولسبب لم يتضح للمحكمة هاجم المجني عليه المتهم الأول ولو سئل المتهم الأول عن خلفية الموضوع لأبان ذلك إذ أن استجوابه بموجب المادة 218 من قانون الإجراءات الجنائية الغرض منه توضيح الظروف الواردة في البينة ضده وهذا ظرف قد يساعد على شرح البينة الواردة ضده إذ لا يعقل أن يباشر هؤلاء البسطاء المقامرة ثم يخسر أحدهم خمس جنيهات وهو مبلغ جسيم جدا بالنسبة لدخولهم الضئيلة ولا يحدث استفزاز أو معركة أو حتى مشادة كلامية على أي حال لم يرد ما يثبت أن هناك مشادة كلامية ولكن وضح أن المتهم الأول خرج وبيده حربة وأن المجني عليه تبعه والسؤال الذي يطرح نفسه هو:
هل كان سلوك المجني عليه بمتابعته المتهم الأول استفزازاً مفاجئاًَ؟
(أنظر القضية حكومة السودان ضد آدم تبن (1975) مجلة الأحكام القضائية ص 73) على الرغم من أن المعيار المتفق عليه هو معيار الرجل العادي إلا أن الرجل العادي يجب ألا يؤخذ بمعزل عن البيئة التي يعيش فيها هكذا قضت محكمة الاستئناف في القضية حكومة السودان ضد البليلة بله البليلة وآخرين (1958) مجلة الأحكام القضائية ص 16
المتهمان من قبيلة النوير وبسطاء وحياتهم اليومية ليس فيها شيء مثير فهم يعملون في حراسة جروف البطيخ ويشربون المريسة ويقضون يومهم الرتيب في أشياء لا تثير فضول أحد فالمعيار الذي يجب أن يطبق عليهم لابد وأن يأخذ كل مظاهر بيئتهم في الاعتبار وقد حذرت المحكمة في القضية المتقدم ذكرها من مغبة قياس حالة راعي البقر على حالة راكب العربة الكاديلاك
النقطة الثانية:
هل كان المتهمان يمارسان حقهما في الدفاع الشرعي عن النفس؟
ورد في ملخص الوقائع الظاهرة ما يأتي (ويقول المتهمان في اعترافهما أن المجني عليه بدأ بمهاجمة المتهم الأول ولم تجد المحكمة ما ينفي هذا الادعاء) (صفحة 19 من المحضر) ثم ناقشت المحكمة التناقض الوارد في اعترافات المتهمين وانتهت إلى عدم تصديق كل ما ورد في الاعترافات ولكن إذا نظرنا إلى الإعترافين المعنيين نجد أن المتهمين قد ذكرا بادئ ذي بدء أنهما ضربا المجني عليه وهو على الأرض والتزما بهذه الجزئية دون تردد حتى النهاية وقد حاول المتهم الأول التملص من بعض الفقرات في اعترافه لكنه لم يغير هذه الجزئية وإن حاول تلطيفها بأن قال أنه ضرب المجني عليه بعدما فارق الحياة ولكن النقطة الجوهرية لم تتغير "انظر اعترافهما أمام القاضي في يومية التحري بتاريخ 8/6/1971 و 17/6 الصفحات 25 إلى 27 و 34 و 35"
نتفق مع المحكمة فيما ذهبت إليه من أنه إذا وجد من البينات ما يؤكد عدم صحة أي جزء من الاعتراف جاز إغفال ذلك ويؤخذ بباقي الإعتراف ولم ترد بينة تنفي الجزء الذي أصر عليه المتهمان منذ أن سجل اعترافهما في يومية التحري وكان الأحرى قبول هذه الجزئية واغفال ما عداها مما لا يتفق ومنطق الأشياء ولعل ضعف الأسباب التي اعتمدت عليها المحكمة ناتج عن اعتمادها على اعتراف المتهمين دون الاستعانة بدليل آخر يساعد في تقييم جزئيات الاعترافين وكشف ما ورد فيهما من تناقض وعلى أحسن الفروض يبدو أن ما ورد من بينة يثير شكا حول قيام حق الدفاع أكثر من ذلك في القضايا الجنائية ولم يثبت بشكل قاطع ما ينفي هذا
النقطة الثالثة:
هل ضرب المتهمان المجني عليه في معركة مفاجئة وفي حدة العاطفة إثر مشاجرة مفاجئة؟
أجابت محكمة الموضوع على هذه النقطة بالنفي ولكنها وفي نفس واحد أثبتت أن معركة قد نشبت بين الطرفين وبما أنها كانت غير متكافئة في نظر المحكمة استنتجت من ذلك أن المعركة لم تكن مفاجئة وأن الضرب لم يكن في حدة العاطفة
نرى أن المحكمة قد أخطأت في هذا فتكافؤ المعركة أو عدمه لا يعني بالضرورة أن المعركة مفاجئة أو غير مفاجئة فالأمران مختلفان اختلافاً بينا والمهم أن تكون المعركة نتاج ساعتها ولم يسبقها تخطيط ما ولا إعتداد بالتكافؤ أو عدمه حتى لو بدا المتهمان الاستفزاز والضرب كما ورد في الشرح الثاني للاستثناء الرابع المادة 249
النقطة الرابعة: هل كان المتهمان في حالة سكر؟
هذا السؤال مهم جدا ولكن المحكمة لم تعره التفاتا وقد ثبت لديها أن المتهمين والمجني عليه كانوا يتعاطون المسكرات ويلعبون الميسر في ليلة 15/5/1972 (صفحه نمرة 22 من المحضر) ثم أن أقوال الشاهد كراع مريم وإخوانه رغم أنها لا تشكل جزءا من البينة إلا أنها تلون الخلفية اللازمة ولو استمعت إليها المحكمة لكفتنا ملونة الإشارة إليها بهذه الطريقة
فمن كل ذلك يتضح أن المتهمين والقتيل وغيرهم كانوا يشربون منذ الصباح الباكر حتى حل الليل وأن تخلل ذلك فترات لابد أن تكون الخمر لعبت بعقولهم
يقول راتنلال وثاكور في كتابهم "قانون الجرائم" في معرض شرحهم للمادة 86- من قانون العقوبات الهندي التي تقابل المادة 42 من قانون العقوبات السوداني "رغم أن السكران لا يختلف عن الواعي من حيث اعتبار الفعل الجنائي إلا أن القصد الجنائي عند السكران لا يكون في نفس نوع القصد الجنائي عند الواعي والسكر سبب كاف لعدم تطبيق العقوبة القصوى" صفحة 806 الطبعة الحادية والعشرين "1966" ولا يعني هذا بحال من الأحوال أن السكر يعفي من الجريمة إلا إذا انطبقت عليه أحكام المادة 50 (ب) من قانون العقوبات
لهذه الأسباب نرى شطب الإدانة بموجب المادتين 79/251 وتعديل الإدانة إلى القتل الجنائي بموجب المادتين 79/253 والحكم على المتهم الأول بالسجن مدى الحياة من تاريخ القبض عليه – وبالسجن لمدة أربعة عشر عاما على المتهم الثاني من تاريخ القبض عليه