سابقة منشورة بمجلة 1973
سابقة منشورة بمجلة 1973
المحكمة العليا
القضاة
سعادة السيد صلاح الدين شبيكة قاضي المحكمة العليا رئيساً
سعادة السيد د حسن محمد علوب قاضي المحكمة العليا عضواً
سعادة السيد محمد الفضل شوقي قاضي المحكمة العليا عضواً
حكومة السودان ضد حسين محمد حسين
( م ع / م ك/ 56 /1975 )
المبادئ
اجراءات جنائية – الرأي المخالف لحكم المحكمة الكبري – وجوب الحفاظ علي سريته – منشور المحاكم الجنائية رقم 11
قانون جنائي – الاستفزاز المتراكم وجوب تناسب رد الفعل مع سبب الاستفزاز
قانون جنائي – الاستفزاز – مجرد الشروع في الضرب – لا يشكل استفزازا شديداً
قانون جنائي – استثناء تجاوز حق الدفاع الشرعي – يستلزم حسن النية
قانون جنائي – المعركة المفاجئة – السلوك القاسي بنفي الاستفادة من الاستثناء
-1-
تعمد تسبب أذي أكثر من القدر اللازم لصد العدوان ينفي حسن النية ولا يمكن المتهم من الاستفادة من استثناء تجاوز حق الدفاع الشرعي
-2-
تهشيم جمجمة المرحوم يعتبر سلوكا قاسيا من المتهم لا يتلاءم مع حدة المعركة التي لم تتعد مجرد شروع المرحوم في ضرب المتهم بعكاز علي أثر النقاش الذي دار بينهما
-3-
مجرد شروع المرحوم في ضرب المتهم بعكاز علي أثر النقاش الذي دار بينهما لا يكفي لاثارة استفزاز شديد لدي المتهم طالما أن الضربة لم تصبه ولم يلحقة أي اذي من المرحوم حينذاك
-4-
مع افتراض أن شروع المرحوم في ضرب المتهم قد اثار استفزازا متراكما بسبب ضرب المرحوم للمتهم في مرة سابقة فقد كان رد الفعل غير متناسب مع سبب الاستفزاز
-5-
الراي المخالف لحكم محكمة الكبري لا يرد كجزء من الحكم الذي يمكن الاطلاع عليه بواسطة ذوي الشأن مما يلزم معه أن يرفق في مؤخرة المحضر وبطريقة تضمن سريته وعدم الاطلاع عليه بواسطة من يؤذن له بالاطلاع علي المحضر فيما بعد
المحامون
محمد علي الحاج عن المتهم
الحـكم
عرضت إجراءات هذه المحاكمة إلى النظر في تأييدها والفصل في الاستئناف المقدم من المحكوم عليه بشخصة وبواسطة محامية , حيث صدر الحكم بإدانته في القتل العمد بموجب المادة 251 عقوبات مع توقيع عقوبة الإعدام عليه وسنشير إلى ما يلزم التعرض له من النقاط التي أوردها محامي المستأنف عند مناقشتنا لتسبيب الحكم
وتتلخص وقائع هذه القضية فيما يلي كما وجدتها المحكمة الكبرى أو كما هي مسنودة بالبينات الواردة كان كل من المتهم والمرحوم يرعى بهائمه في الخلاء حيث كانا متجاورين في المرعى وقد ثار بينهما نقاش بعد مغيب الشمس يوم الحادث على أثر اختلاط البهائم التي كان يرعاها كل منهما بالأخرى فرفع المرحوم عكازه لكي يضرب المتهم إلا أن الأخير عاجله بالضرب بعكاز فوق رأسه عدة ضربات مما أدى إلى إحداث كسر بالجمجمة وتهشيمها وقد أجريت للمصاب عملية جراحية لرفع العظم وفارق الحياة في اليوم التالي حيث كان سبب الوفاة هو الكسور التي لحقت بالجمجمة والأذى الجسيم الذي لحق بالمخ وما نتج عنه من نزيف داخلي وكان هنالك نزاع سابق بين المتهم والمرحوم قبل حوالي سنتين من الحادث حيث ضرب المرحوم المتهم وتم عمل صلح بينهما حينذاك
وكان أول تساؤل ناقشته المحكمة الكبرى هو ما إذا كان المتهم قد ضرب المرحوم وقد ردت على ذلك بالإيجاب معتمدة على إقرار المتهم بضربة للمرحوم بالعكاز المعروض على رأسه وذلك في اعترافه القضائي المدون بالصحيفة 8 و 9 ىت وعند استجوابه في التحقيق القضائي وفي المحاكمة ويؤيد تلك الإقرارات أيضا إقرار سابق من المتهم لشاهد الاتهام الثالث حينما وصل الآخر إلى مكان الحادث بضربه للمرحوم كما يؤيد هذه الإقرارات أيضاً القرينة المستخلصة من شهادة شأ3 الذي سمع صوت الضرب ولم ير في الموضوع غير المتهم والمرحوم وهو ساقط وينازع المتهم عند استجوابه بأن عدد الضربات ثلاثة إلا أن الطبيب الذي عاين تلك الإصابات على الرأس واجري عملية جراحية للمتهم قد أوضح في شهادته انه يقدر الضربات التي سببتها بستة ضربات ويؤيد شهادته عن هذا التقرير وصف إصابات الرأس التي عددها في تقريره
وكان التساؤل التالي الذي ناقشته المحكمة الكبرى هو ما إذا كان المتهم قد سبب وفاة المرحوم بتلك الضربات وقد ردت على ذلك بالإيجاب معتمدة في إثباته على شهادة الطبيب الذي قام بفحص تلك الإصابات وإجراء العملية الجراحية لرفع العظم حيث يرجعه إلى الكسور التي لحقت بالجمجمة والأذى الجسيم الذي لحق بالمخ والنزيف الداخلي الذي نتج عن إصابة المخ
وكان التساؤل التالي الذي ناقشته المحكمة الكبرى هو ما إذا كان المتهم قاصدا تسبب موت المرحوم أو عالماً بان الموت نتيجة مرجحة لتلك الإصابات التي ألحقها بالمرحوم وقد اعتمدت المحكمة الكبرى علة طبيعة الآلة المستخدمة وموضع الإصابات وآثارها للقول بأن المتهم كان يعلم على الأقل أن الموت نتيجة مرجحه لها وقد جاء تسبيبها سائغا في هذا الشأن حيث أن الآلة المستخدمة كانت عكازا يزن 4800 جراما كما جاء في شهادة المتحري في المحاكمة وكان رأسه مغطى بطبقة من الجلد السميك ( مضبب ) كما كان موضع الإصابات هو الرأس بما له من حساسية خاصة بسبب كونه وعاء المخ وذلك بالإضافة إلى الآثار التي نتجت عن تلك الإصابات كما جاء بيانها في شهادة الطبيب ش أ(2) والتي أحدثت كسوراً وتهشيماً بالجمجمة في اكثر من موضع ولا بد لمحدث تلك الإصابات أن يعلم على الأقل بان الموت نتيجة مرجحه لها
وقد انتقلت المحكمة الكبرى بعد ذلك مباشرة لمناقشة استثناء تجاوز حق الدفاع الشرعي وكان الأوفق أن تبدأ بمناقشة الدفاع الشرعي كسبب للإباحة نسبة لما يثيره المتهم في أقواله وفي مرافعة دفاعه من دفع في هذا الشأن فهل كان المتهم يمارس حقه المشروع في الدفاع عن نفسه حينما ضرب المرحوم على رأسه وتقوم روايات المتهم في جملتها أنه ثار نقاش بينه وبين المرحوم بسبب احتجاج الآخر على اختلاط البهائم التي كان يرعاها كل منهما فهم المرحوم نتيجة لذلك بضرب المتهم بعكاز حيث تلقى الأخير الضرب بعكازه ثم قام المتهم بضرب المرحوم بالعكاز على رأسه ثلاثة ضربات ولكننا نعتمد على شهادة الطبيب عن عدد الضربات والتي قدرها بسته ضربات وفقاً لما يستخلصه من آثارها التي أحدثت الإصابات التي شاهدها ويؤيد شهادة الطبيب في هذا الشأن آثار الضرب الموضحة في قرارة عند الكشف على المتهم فقد وجد جرحا قطعياً في الناحية الأمامية من الرأس وجرحين من الناحية الخلفية مع كسر منخفض في نفس المنطقة وجرحين بالجفن الأيمن والأيسر وتورم بالفك كما تبين له بعد العملية وجود كسر في منطقة الجرح الأمامية وكسر مدشدش وضاغط في منطقة الجرح الخلفية مع احتقان دموي في كل مناطق الجروح ونظرا لعدم وجود شاهد عيان لما دار بين المرحوم والمتهم فسنعتمد على اعتراف المتهم في تصور تلك الوقائع إلى الحد الذي لا توجد فيه بينة تناهضه من إقرار صادر من المتهم أو قرينة مستخلصة من البينات والظروف الأخرى هذا وقد اعتمدت المحكمة الكبرى علي عدة نقاط سنناقشها فيما يلي عن رفض رواية المتهم بأنه ضرب المرحوم بعد أن هم الأخير بالاعتداء عليه بالعكاز على اثر النقاش عن اختلاط البهائم وكانت أول تلك النقاط ما ذكره المتهم من عدد الضربات التي أوقعها برأس المرحوم حيث يقول بأنها ثلاثة بينما ثبت من شهادة الطبيب بأنها ستة ضربات إلا أننا نري أن عدم صدق المتهم في جزء من دفاعه لا يقوم قرينة على زيف كل الاعتراف وما يقوم عليه من دفاع وكانت النقطة الثانية هي وجود اثر ضرب في مؤخرة رأس المرحوم أحدث تهشيما بالرأس حيث اعتمدت المحكمة الكبرى على ذلك بين الأسباب الأخرى التي سيرد ذكرها للقول بان المتهم ضرب المرحوم بينما كان الأخير جالساً إلا أن وقوع الضرب من الخلف لا يتطلب بالضرورة أن يكون المرحوم جالسا حينذاك كما ثبت من شهادة الطبيب وجود ضربات أيضاً في مقدمة الرأس مما ينفي قرينة وقوع الضرب مباغتة من الخلف كما قد تكون إصابة الخلف لاحقة على أول إصابة أوقعها المتهم برأس المرحوم وعلي اثر تقهقر الأخير وبالتالي لا تقوم كقرينة كافية على إثبات ترصد المتهم وكانت النقطة الثالثة هي ما استخلصته المحكمة الكبرى من اعتراف المتهم القضائي المدون ص 8 ي ت في أجابته على شأ(3) حينما سأله عن سبب ضربه للمرحوم حيث إجابة المتهم بأن الشخص الذي ضرب المتهم في مرة سابقة ( تدرعني ) والواقع أن هذه العبارة الأخيرة أتت في حكم المحكمة الكبرى مبتورة من السياق الذي وردت فيه في الاعتراف والذي لا تؤدي فيه إلى المعنى الذي نسبته لها المحكمة وقد كانت صيغة ذلك الجزء من الاعتراف كما يلي كما دونها القاضي ( وشعرت بحركة شخص آخر قريبة وقلت له أن هذا هو الشخص الذي ضربني في مرة سابقة " تدرعني " الآن وشايله بالعكاز ) وكما هو جلي فإن تلك العبارة تعني في السياق الذي وردت فيه بان الشخص الذي ضرب المتهم من قبل قد شرع الآن في الاعتداء عليه أيضا بالعكاز كما أوردت المحكمة الكبرى نقاطا ثلاثا أخرى كجزء من تسبيبها لرفض ما جاء في اعتراف المتهم على شروع المرحوم في الاعتداء عليه بعكاز علي اثر نقاش حول اختلاط البهائم كما أخذت بها أيضا بالإضافة إلى النقاط السابقة كقرينة على مباغتة المتهم للمرحوم بينما كان الآخر جالساً وهي نقاط تعتمد على مسلك المتهم والمرحوم حينما وجدهما شإ(3) في حالة عادية ثم ما أبداه المتهم لذلك الشاهد حينذاك من أنه ينوي البقاء ( شوية ) في المرعي وأخيراً قصر الفترة التي انقضت بين انصراف الشاهد منهما ثم رجوعه وسماعة صوت الضرب والواقع أن هذه النقاط الثلاثة لا تؤدي إلى استخلاص قرينة عن كذب كل رواية المتهم إذ أن شأ(3) قد تغيب عنهما حينذاك خلال الفترة التي استغرقها بحثه عن أولاده في المرعى ثم أخذه لبهائمه وعودته للانضمام إليهما وهي فترة تكفي لتطور الأحداث على النحو الذي جاء في رواية المتهم وكانت آخر تلك النقاط التي أوردتها المحكمة الكبرى كجزء من تسبيبها لرفض رواية المتهم هو ما ثبت من وجود خصام سابق بين المتهم والمرحوم بسبب ضرب الأخير له في مرة سابقة إلا انه ثبت من شهادة شأ(3) بأن ذلك حدث منذ سنتين قبل الحادث وقد حضر مجلساً تمت فيه المصالحة بين المتهم والمرحوم عن ذلك حينذاك مما لا يستساغ معه أن تكون تلك الواقعة باعثاً محركاً للمتهم للبدء بالاعتداء علي المرحوم بعد انقضاء تلك الفترة وبعد المصالحة بينهما وفي تلك اللحظة على وجه التحديد وعند استعراضنا للبيانات الأخرى الواردة للنظر فيما إذا كان فيها ما يؤيد النتيجة التي توصلت إليها المحكمة الكبرى من أن المتهم ترصد للمرحوم في ذلك المكان ليلاً وقام بضربة بسبب ما كان بينهما من خصام سابق استوقفنا ما جاء في شهادة ش أ (3) عما ورد عليه به المتهم حينما استفسر منه عن ضربه للمرحوم بتلك الطريقة قائلا للمتهم ( ده عمل يعمله مؤمن لمؤمن مالك قلت ليه قال لي ميلي ماك عارفه ) ولكن عبارة ( ميلي ماك عارفه ) في هذا السياق لا تعني بالضرورة إشارة إلى انتقام بسبب الخصام السابق إذ أنها تحتمل تفسيرات شتى أخرى فقد تعني بأنه قام بضرب المرحوم خشية أن يصيبه منه ضرب مماثل لضربه السابق للمتهم والذي كان سبب الخصام ونظراً لما ورد من قبل فليس أمامنا إلا أن نأخذ برواية المتهم عن وقوع نقاش بينه وبين المرحوم فجأة بسبب اختلاط البهائم حاول على أثره الأخير ضرب المتهم بعصا وذلك أخذا بقاعدة تفسير الشك لصالح المتهم إلا أن طبيعة الإصابات التي ألحقها المتهم بالمرحوم توضح أنه سبب أذى اكثر من اللازم لصد العدوان مما ينهار معه أحد أركان ممارسة حق الدفاع الشرعي كسبب للإباحة وفقا للمادة (58) عقوبات
فمجرد رفع المرحوم لعكازه والشروع في ضرب المتهم لا يخول الأخير إحداث ستة إصابات قاتله برأس المرحوم في الوقت الذي لم يلحقه أي أذى من المرحوم مما يوضح بأنه قد شل قدرة المرحوم منذ أول وهله بطريقة بطريقة تجعله لا يتوقع خطراً من المرحوم بدعوة لمواصلة الضرب حتى مع الأخذ في الاعتبار لعدم التكافؤ الجسماني بينهما حيث كان المرحوم أكبر حجماً من المتهم وحتى مع الأخذ أيضا في الاعتبار لتخوفه من المرحوم كما جاء في مرافعة الدفاع بسبب اعتداء سابق عليه من المرحوم كما أن طبيعة الإصابات التي أوقعها المتهم برأس المرحوم كما استعرضناها من قبل والتي أدى بعضها إلى كسر الجمجمة وتهشيمها توضح أن المتهم قد تعمد تسبيب أذى أكثر من اللازم لصد العدوان وفي هذا ما ينفي أيضاً حسن النية وإمكانية استفادة المتهم من استثناء تجاوز حق الدفاع الشرعي على غير ما جاء في الرأي المخالف في هذا الشان هذا وتجدر الإشارة إلى أن منشور المحاكم الجنائية رقم ( 10) يتطلب ألا يرد الرأي المخالف لدى المحاكم الكبرى كجزء من الحكم الذي يمكن الاطلاع عليه بواسطة ذوي الشأن مما يلزم معه أن يرفق في مؤخرة المحضر وبطريقة تضمن سريته فيما بعد مما يحسن معه أن يوضع في ظرف مغلق في آخر المحضر مع الإشارة إلى أنه جزء سرى لا تطلع عليه سوى سلطة التأييد
ونستعرض فيما يلي ما إذا كان هنالك مجال لاستفادة المتهم من استثناء المعركة المفاجئة أو الاستفزاز الشديد
فإذا صورنا الحادث علي أنه معركة مفاجئه استنادا إلى ما جاء في اعتراف المتهم, فقد سلك المتهم سلوكاً قاسياً بتهشيم جمجمة المرحوم لا يتلاءم مع حدة المعركة التي لم تتعد شروع المرحوم في ضرب المتهم بعكاز على أثر النقاش الذي دار بينهما
فهل ضرب المتهم المرحوم على أثر استفزاز شديد مفاجئ سببه له المرحوم ؟ أن مجرد شروع المرحوم في ضرب المتهم على أثر النقاش بينهما علي اختلاط البهائم لا يكفي لإثارة استفزاز شديد لدى المتهم طالما أن الضربة لم تصبه ولم يلحقه أذى من المرحوم حينذاك وحتى مع افتراض أن ذلك قد ثار استفزازاً متراكماً بسبب ضرب المرحوم للمتهم في مرة سابقه فقد كان رد الفعل غير متناسب مع سبب الاستفزاز
ولذلك نؤيد القرار بإدانة المحكوم عليه في القتل العمد وعقوبة الإعدام الموقعة بناءً عليه