سابقة منشورة بمجلة 1971
سابقة منشورة بمجلة 1971
المحكمــة العليـــا
القضــاة
صاحب السعادة السيد/ خلف الله الرشيد رئيس المحكمة العليا رئيساً
سعادة السيد/ هنري رياض سكلا قاضي المحكمة العليا عضواً
حكومة السودان ضــد حسن هجام دهب
م ع/م ك/274/72
المبادئ
قانون الإثبات – الاعتراف القضائي – الأخذ بجزء من الاعتراف القضائي طالما كان متفقا والمنطق السليم – لا تلتزم المحكمة بأخذ الاعتراف القضائي كله أو طرحه كله مع البينات الأخرى – قبول البينة ووزنها كان المتهم زوجاً لأم المجني عليها التي كانت طفلة لأ تتعدى حوالي السادسة من العمر أبدى المتهم تبرما بوجود الطفلة مع أمها وفي أحد الأيام اصطحبها للخلاء وهناك ضربها وأصاب منها مقتلاً أدلى المتهم باعتراف قضائي قال فيه أنه أصاب المجني عليها بيده في عنقها وقتلها جاء في البينة أن المتهم عندما اصطحب المجني عليها كن يحمل فأساً وأن ما لحق بالمجني عليها من أذى لا يمكن حدوثه نتيجة الضرب باليد بل لابد من استعمال آلة صلبة الزمت المحكمة الكبرى نفسها بما جاء في اعتراف المتهم القضائي وقضت أنه أصاب المجني عليها بيده وأبدت تشككها في أنه أصابها بالفأس
/1/
على المحكمة أن تحلل جزئيات الأقوال سواء كانت من قبل المتهم أو من غيره وتضاهيها بالأقوال الأخرى حتى تستطيع أن تكون عقيدتها تجاهها حسب ما كان سائغا ومقبولا وغير مجاف للمنطق السليم
/2/
يجوز للمحكمة أن تأخذ من الاعتراف القضائي ما يتفق وبقية البينات ولا الزام عليها بأخذ الاعتراف كله أو طرحه كله
الحكم
22/7/1972
قدم المتهم للمحاكمة أمام محكمة كبرى عقدت في زالنجي بتاريخ 20/4/72 وأدانت المتهم بتهمة القتل العمد بموجب المادة 251 من قانون العقوبات وحكمت عليه بالإعدام شنقاً حتى الموت
تتلخص وقائع هذه القضية في أن المتهم ويبلغ من العمر حوالي الخامسة والأربعين أخذ ابنة زوجته البالغة من العمر حوالي ستة سنوات إلى مكان خلوي بالقرب من قرية (نيرتتي) بضواحي زالنجي وهناك قتلها وتركها في العراء حيث أكلتها الضباع
لم يتقدم المتهم بطعن في الحكم وإن تقدم باسترحام
اعتمدت المحكمة على اعتراف المتهم الذي أنكر الجريمة بادئ الأمر ثم عاد واعترف بها وأخبر ابنه (علي حسن هجام) ( ش أ ت 3) بمكان جثة القتيلة وطلب منه إخفاءها ورفض ابنه ذلك وادعى المتهم أنه ضرب القتيلة بيده على عنقها
اقتنعن المحكمة بأن المتهم مقتل القتيلة الصغيرة وأن الوقائع التي ثبتت لديها لا تدخل الفعل الجنائي المرتكب تحت أي من الاستثناءات الواردة في المادة 249 من قانون العقوبات بل أن تلك الاستثناءات غير واردة أصلا إذ أن القتيلة طفلة في السادسة من عمرها على الأكثر والمتهم رجل مكمل النمو وله ابن رجل وكانا وحيدين في الخلاء وكان المتهم مسلحا بفأس
ورغم أن المحكمة اقتنعت بأن المتهم قد ارتكب جريمة القتل إلا أنها بنت حكمها على أن سبب الوفاة كان ضربة باليد على عنق القتيلة وقد استعرضت المحكمة شهادة الطبيب الذي فحص ما تبقى من عظام القتيلة وقد اتضح من أقوال الطبيب أن الفحص الطبي أثبت وجود كسر منخطف خلف النتوء الحلمي الأيمن كما أثبت وجود كسر في إحدى الضلوع بيد أن الكسر حديث نتج من نقل البقايا وأن أجزاء من عظم اللوح الأيسر يوجد بها أكثر من تآكل يرجح أن يكون من نبش حيوان
وفي رأي الطبيب أن سبب الموت يرجع إلى الضرب بجسم صلب راض خلف الأذن اليمنى أدى إلى ارتجاج بالمخ مع نزيف داخلي في المخ وقد سئل الطبيب عما إذا كان الضرب باليد قد يحدث كسراً فأجاب بالنفي
رغم كل هذا أخذت المحكمة باعتراف المتهم وانتهت إلى القول بأن المتهم قد ضرب البنت بيده مسبباً بذلك نفس الأذى عللت المحكمة ذلك بقولها "كما أوضح الطبيب أن الآلة المستعملة في الحادث يرجح أن تكون جسماًَ صلبا مثل العصاة أو الخشبة أو الحديد وأكد الطبيب بأن يد الإنسان طرية لا تكسر العظم ولكن أمامنا اعتراف المتهم وهو الدليل الوحيد الذي اعتمدت عليه المحكمة لاثبات الجرم على المتهم واعتراف المتهم هذا يجب أن يؤخذ ككل أو يرفض ككل وينسحب (هكذا) من هذا أن المحكمة ملزمة بتقرير أن المتهم ضرب المجني عليها بيده فقط" ثم ناقشت المحكمة القرائن وخلفيات الحادث من ضيق وتبرم المتهم بابنة زوجته واصطحابه لها إلى العراء وفي يده فأس ولاحظت التناقض بين اعترافه وبين تقرير الطبيب ولذلك علقت المحكمة بقولها " وقد رجح الطبيب أن يكون الضرب بقطعة من الحديد أو عصاة – وقد وافق فعلا وجود الفأس المعروضات بيد المتهم عند ارتكاب الحادث ولولا اعتماد المحكمة من إثبات واقعة الضرب على اعتراف المتهم لاستبعدت المحكمة أحداث الأذى باليد ولقررت المحكمة أن الأذى قد حدث بالفأس التي كان يحملها في يده"
تدل هذه الملاحظة على أن المحكمة أوشكت أن تكون عقيدتها على الأساس الصحيح فقد حاك في صدرها أن الحقيقة تكمن في أن المتهم قد ضرب القتيلة بالفأس ولكن منعها من استنباط ذلك اعتقادها أن اعتراف المتهم يقيدها وأنها –أي المحكمة إذا فحصت ذلك الاعتراف لأغراض استنباط الحقيقة فإنها ستطرح جانبا منه وبالتالي يفلت الحبل ولا تجد لإدانة المتهم سبيلا
ليست هذه هي القاعدة الصحيحة وقد لاحظنا مرارا أن المحاكم الكبرى كثيراً ما تقع في مثل هذا الخطأ ويبدو أن الخطأ راجع إلى الخلط بين شيئين فيما يتعلق بالأقوال الأول: قبول الأقوال في البينة والثاني: تقييم تلك الأقوال بغرض معرفة الحقيقة لعل العبارة الإنجليزية أوضح في الدلالة لمن تمرسوا على النظام الإنجليزي
“There is a distinction between the admissibility of evidence and the weight of evidence”
ففي حالة القبول تقبل الأقوال ولكن تخضع لمقاييس الوزن بغرض تكوين العقيدة فقبول الأقوالadmissibility
يكون بقبولها كاملة أما وزنها weight فيعتمد على معايير خارجية وذلك بمضاهاتها مع البينات الأخرى كقرائن وإفادات
الشهود والخبراء والملابسات الأخرى وعلى المحكمة أن تحلل جزئيات الأقوال سواء كانت أقوال المتهم أو أقوال الشريك وتضاهيها بالأقوال الأخرى حتى تستطيع أن تكون عقيدتها من تلك الأقوال المتفق عليها وتطرح ما تناقض منها أو ما لم يكن سائغا ولا مقبولا ولا يتفق مع المنطق السليم
ففي هذه القضية قد ثبت للمحكمة أن المتهم قد ترك مع القتيلة وهي صغيرة في المنزل وأن المتهم قد اصطحب القتيلة إلى خارج القرية وكان مسلحاً بفأس وقد سبق أن أبدى تبرمه بوجودها وهدد "بقطع طاريها" ثم أنه في نفس يوم الحادث وقبيل ذهاب أمها إلى السوق احتج على إضجاعها بجانب والدتها ولما ذهب بها إلى الخلاء قال لها "أنت عندما أمك تعود كل مرة تعمل فيني كلام دنيا" (ص 26 من المحضر) كل هذه الدلائل تشير إلى أن المتهم قد ضاق بوجود البنت الصغيرة أشد الضيق وتبرم بها وصمم على الخلاص منها ولذلك قادها إلى العراء وضربها بالفأس في مؤخرة الرأس وقد ثبت أن الجمجمة قد كسرت بجسم صلب راض وهذه هي النقطة التي لم تستطع محكمة الموضوع التوصل إليها رغم أنها حامت حولها كثيرا وكان واجب المحكمة أن تأخذ من الاعتراف ما يطابق باقي البينات وهو قتل المتهم البنت الصغيرة ثم تطرح ما تناقض وهو إحداثه للوفاة بضربة اليد وهنا يعترف المتهم بأنه ضرب القتيلة ولكنه تعمد إخفاء الجزء الباقي من الحقيقة وهو الوسيلة التي استعملها في الضرب وقد أبان الطبيب أن لا يمكن أن تحدثه اليد بل تحدثه آلة صلبة راضة مثل الفأس توجب على المحكمة استخلاص الواقعة المناسبة والمتفقة مع منطق الأشياء لا أن تجول حول الموضوع إذ أن إصرارها على أن الضرب أحدثته اليد لا يمكن أن يعد استخلاصا سائغا ومقبولا في هذه الظروف
عليه نرى أن إدانة المتهم بموجب المادة 251 من قانون العقوبات جاءت صحيحة بناء على ما أوردنا من أسباب ونرى تأييد العقوبة بالإعدام شنقا حتى الموت