سابقة منشورة بمجلة 1971
سابقة منشورة بمجلة 1971
محكمة الاستئناف المدنية
الدائرة الجنائية
إعادة نظر جنائي
حكومة السودان ضد محمد إدريس محمد
م أ/ أ ن ج/82/72
:المبادئ
قانون الإجراءات الجنائية – تدخل السلطة الاستئنافية في قرار المحكمة الادنى- تدخل السلطة الاستئنافية في وزن بينة الشهود- قبول البينات- سلطات الاستئناف- الاستنتاجات من الوقائع والبينات- القضايا المدنية والجنائية – حرية سلطة الاستئناف
(1)
واجب المحكمة في درجة الاستئناف بخصوص النظر في البينات أوسع مجالا في القضايا الجنائية منه في القضايا المدنية
(2)
ليس للمحكمة الاستئنافية أن ترفض ما تقرره المحكمة الابتدائية عن شاهد فيما يتعلق بصدقه أو اعتباره
(3)
السلطة الاستئنافية عليها بعض القيود عند التدخل في وزن وتقييم البينات والوقائع ولكنها مطلقة الحرية في الاستنتاج من الوقائع والبينات عند ثبوتها
(4)
قبول أو عدم قبول البينات المستندة إلى القانون تقرره المحكمة الاستئنافية
:الحكم
عثمان الطيب رئيس القضاء – 6/3/1972
قدم هذا المتهم للمحاكمة أمام قاضي الجنايات متهما بأنه في 21/9/1970 وبوصفه عدادا في محطة سكة حديد مدني حول بسوء قصد لمنفعته الخاصة ستة صفائح مسلى كانت مشحونة من الضعين إلى الخرطوم في العربة التي كان يقوم بتفريغها وبذلك يكون مرتكب جريمة خيانة الامانة تحت المادة 351 من قانون العقوبات قدم في نفس المحاكمة المدعو الامين محمد بابكر متهما بالتحريض على ارتكاب الجريمة تحت المادتين 84/351 من قانون العقوبات وقدم المتهم الثالث وهو حسن عوض السيد متهما باستلام المال المسروق تحت المادة 353 من قانون العقوبات
رأت المحكمة عدم إدانة المتهم الأول وأمرت بإطلاق سراحه على أساس أن البينة لم تكن كافية للإدانة وأدانت المتهم الثاني بجريمة المساعدة في تصريف المال المسروق تحت المادة 356 من قانون العقوبات وأدانت المتهم الثالث بإستلام المال المسروق تحت المادة 353 من قانون العقوبات
تقدم السيد وكيل نيابة النيل الازرق بطلب تحت المادة 257 من قانون الإجراءات الجنائية للسيد قاضي المديرية في قرار عدم إدانة المتهم الأول قائلا أن البينات كانت متوفرة وكافية للإدانة استعرض السيد قاضي المديرية البينات التي كانت أمام المحكمة وقرر رفض تأييد قرار عدم الادانة وذلك على حسب رأيه أن البينات كافية لاثبات الجريمة على المتهم الأول تحت المادة 351 من قانون العقوبات وأمر بإرجاع الإجراءات لمحكمة قاضي الجنايات لمراجعة قرارها
تقدم محامي المتهم بمذكرة لهذه المحكمة يناهض فيها قرار السيد قاضي المديرية للنظر تحت المادة 257 من قانون العقوبات أني أبدا بالاتفاق مع السيد المحامي في أن هذا القرار يستحق النظر فيه في هذا الطور بالنسبة لصحته أو عدمها لأن نتيجته الحتمية أمام السيد قاضي الجنايات هو تغيير قرار عدم الإدانة الى قرار بالإدانة وذلك واضح من منطوق حكم السيد قاضي المديرية وأن قرار الإدانة الذي ينتظر أن يصدر من قاضي الجنايات سيستأنف أمام السيد قاضي المديرية الذي سبق أن قرر الادانة تقريرا نهائيا لا مجال له بعده من نظرة أخرى موضوعية للقضية
توجد نقطة مهمة تستحق الاعتبار وهي تتعلق بمدى تدخل المحكمة التي يرفع لها الاستئناف في وزن البيانات التي وردت أمام المحكمة الابتدائية في القضايا الجنائية ذكر السيد قاضي المديرية في افتتاحية حكمه ما يفيد أنه لا يتفق مع المحكمة الادنى الابتدائية فيما ذهبت إليه في تقييمها للبينات الواردة ضد المتهم الأول وأنه يرى أن تقييم المحكمة الأدنى لتلك البينات جاء على عكس ثقل تلك البينات وبعدها دخل في نقاش البينات يعترض السيد محامي المتهم على هذا المسلك ويرى أن المحكمة الاستئنافية لا مجال أمامها للتدخل في وزن وتقييم البينات وأشار إلى بعض الشواهد من السوابق القضائية وإن كانت كلها في نزاعات مدنية
فيما أرى أن القاعدة في القضايا الجنائية وفي القضايا المدنية تنبع من مبدأ واحد ولكنها تختلف بإختلاف درجة الإثبات في الحالتين وكما هو معروف فإن الإثبات في القضايا الجنائية وهي بين ممثل الاتهام والمتهم يجب أن يكون إثباتا في درجة عالية نسبيا للإقتناع والاعتقاد بدون شك معقول بأن المتهم ارتكب الجريمة التي أتهم بها ويترتب على ذلك إدانته بها وله أن يبرأ من التهمة إذا كانت درجة الاثبات منخفضة نسبيا بحيث لا يستقر عليها الاقتناع والاعتقاد أو كان ذلك مشوبا بالشك المعقول أما في القضايا المدنية وهي التي يلزم فيها الحكم لاحد الخصوم فإن القاعدة هي وزن البيانات وتقييمها للوصول إلى الحكم على سبيل الترجيح فإذا تنازع الخصمان في واقعة معينة وقدم مدع بينات لاثبات وقوعها وقدم معارضها بينات لعدم وقوعها فمن واجب المحكمة وهي تمارس سلطاتها التقديرية أن ترجح واحدة على الاخرى وتصدر حكمها
وانطلاقا من هذا فإن واجب المحكمة الاستئنافية في القضايا الجنائية أوسع مجالا وأكثر تعقيدا منه في القضايا المدنية إذ أن عليها في الأول أن تراجع البينات والوقائع المراد إثباتها بطريقة تفصيلية لتقتنع نفسها وراء درجة الشك المعقول بأن قرار الادانة صدر صحيحا أما في حالة الثانية فإن عليها أن تقبل الترجيح الذي توصلت إليه المحكمة الابتدائية إلا إذا ظهر خطأ واضحا أو أن السلطات التقديرية في الترجيح قد مورست بطريقة غير قضائية وغير عادلة
في كل الاحوال فإن المحكمة الاستئنافية ليس لها أن ترفض ما تقرره المحكمة الابتدائية عن شاهد معين نسبة لعدم صدقه أو أنه لا يستحق الاعتبار وذلك لما ظهر لها أثناء إدلائه بشهادته من تردد أو مراوغة أو محاولة أوغموض أو تناقض لأن هذا يظهر للمحكمة الابتدائية من النظر إلى شخصية الشاهد ومظهره وطريقة آدائه للشهادة
ومن المعلوم أيضا أن السلطة الاستئنافية مقيدة بعض الشئ كما سبق ذكره – في التدخل في وزن وتقييم البينات والوقائع ولكنها مطلقة الحرية في الاستنتاجات من الوقائع الثابتة اي ان لها أن تصل إلى وقائع استنتاجية مختلفة عن تلك التي توصلت إليها المحكمة الابتدائية لان هذه تعتمد على التعليل والتسلل المنطقي والفعلي وأي خطأ أو قصور من المحكمة الابتدائية تصححه الاستئنافية ومعلوم أيضا أن قبول أو عدم قبول البينات المستندة إلى القانون تقرر في صحتها المحكمة الاستئنافية
نخلص من هذا إلى أن السيد قاضي المديرية له الصلاحية لاستعراض البينات في هذه القضية بالطريقة التفصيلية كما فعل ولكنني اختلف معه في النتيجة التي توصل إليها ولا أريد أن أناقشها تفصيلا ولكني أقرر أنني بعد إطلاعي على البينات وعلى حكم المحكمة الابتدائية أجد نفسي متفقا معه على عدم كفاية البينات لادانة المتهم الأول أي أن البينات لم تكن من القوة بدرجة مقنعة بدون شك معقول
الوقائع التي لا خلاف عليها هي أن المتهم الأول في أثناء قيامه بواجبه كعداد في مصلحة السكة الحديد كان يقوم بتفريغ البضائع المرسلة إلى واد مدني من احدى العربات وفي أثناء ذلك أنزلت إلى الرصيف بضائع أخرى لم تكن في طريقها إلى مدني لتسهيل عملية التفريغ علىأن تعاد العربة في النهاية وكان من بين تلك البضائع التي انزلت بالرصيف ستة صفائح من المسلى كان قد شحنت من الضعين إلى الخرطوم ولكن هذه الصفائح لم تتم إعادتها للعربة وتركت بالرصيف وفي اليوم الثاني حملها المتهم الثاني- وهو صاحب عربة نقل وخرج بها من المحطة وباعها إلى المتهم الثالث
قال المتهم الأول أنه بعد إنزال كل البضائع المرسلة إلى مدني ترك الحمالين يعيدون البضائع الاخرى إلى مكانها من العربة وبعد ذلك لا يعرف شيئا مما حدث شهود الاتهام ضده كانوا حمالون وصاحب عربة النقل"الكارو" والمتهم الثاني قال الحمالان ان المتهم الأول أمرهم بإخراج الصفائح على أساس أنها شحنت لمدني أما صاحب العربة"الكارو" فقد قال أن المتهم طلب منه أن ينقل الصفائح إلى المدينة والمتهم الثاني قال أن المتهم طلب منه أن ينقل تلك الصفائح إلى السوق ويبيعها وأنه نقلها إلى منزله وباعها إلى المتهم الثالث ناقش السيد قاضي الجنايات هذه البينات في اسهاب وبين التناقض فيها والتردد والمراوغة التي اتصف بها هؤلاء الشهود ووصل إلى النتيجة أنها بينات ضعيفة وغير مقنعة لإدانة المتهم بدون شك معقول وفي رأيه أن المتهم كان مهملا لانه لم يراجع ما إذا كانت تلك الصفائح قد أعيدت إلى مكانها في العربة لكي تستمر إلى محطة إرسالها
في رأيي أنه ما دامت المسألة متعلقة بصدق الشهود أو عدم صدقهم فلا مجال للسيد قاضي المديرية للتدخل فيها ليقرر ان اولئك الشهود يجب أن يصدقوا ويوجه بإدانة المتهم وأقرر هذا لأني بعد اطلاعي على البينات وتقييم السيد قاضي الجنايات لها شعرت بأنني مقتنع بالاسباب التي ذكرها والنتيجة التي توصل إليها خاصة وأن القرار كان قرار عدم إدانة لوجود شك في البينات وأنه إذا أدان قاضي الجنايات المتهم بناء على تلك البينات كان من السهل رفض تأييد الادانة ما دامت قد بنيت على شهود حضروا أمام المحكمة واقتنعت بصدقهم
لهذا فإني الغي قرار السيد قاضي المديرية