سابقة منشورة بمجلة 1971
سابقة منشورة بمجلة 1971
محكمــة الإسـتئناف
القضــاة
سعادة السيد /مهدي الفحل نائب رئيس المحكمة العليا ورئيس
محكمة الاستئناف الخرطوم رئيساً
سيادة السيد/ حسين محمد حسين قاضي محكمة الاستئناف الخرطوم عضواً
حكومة السودان ضــد بشير عبد الله السلمابي
م أ/م ك/11/72
المبادئ
قانون العقوبات – تسبيب الموت- المواد 253 و 249 من قانون العقوبات – حق الدفاع الشرعي عن النفس – التخوف المعقول من تسبيب الموت أو الأذى – الظروف التي تبرر التخوف المعقول من الموت أو الأذى – تقدير العقوبة
/1/
كي تقرر المحكمة ما إذا كان هناك تخوف معقول من تسبيب الموت أو الأذى الجسيم مما يبرر استخدام حق الدفاع عن النفس إلى درجة تعمد إحداث الموت يجب أن تراعى كل الظروف بما في ذلك طبيعة التهجم ووجود أناس بمسرح الأحداث
/ 2/
العناصر المخففة للجريمة كالاستفزاز والفضية إلى عدم المسئولية عنها كالدفاع عن النفس تؤخذ في الاعتبار كعوامل تقدير العقوبة وإن لم تثبت على المستوى المطلوب قانوناً كي صلح كدفع
كان المتهم يشارك آخرين لعب الورق في مساء 24/5/1970 بإحدى حجرات نادي الخرطوم عندما حضر المجني عليه ووقف خلف كرسي المتهم تضايق المتهم من وقفة المجني عليه وطلب منه أن يقف في مكان آخر ولكن المجني عليه رد ساخراً بقوله متى كان "للفلاته" أن يأمروا الناس؟ ثم ترك المجني عليه الحجرة عندما طلب إليه الحاضرون ذلك ولكنه رد قبل مغادرتها قائلا أنه يغادرها اعتبارا للحاضرين دون سواهم وبعد فترة وجيزة عاد المجني عليه واتخذ نفس وقفته السابقة الشيء الذي أهاج المتهم وأغضبه فرمى بالورق وهم بالخروج ولكن المجني عليه سبه وعاجله صافعاً إياه رد المتهم صفعة المجني عليه بمثلها وفرق بينهما الحاضرون وخرج المتهم لفناء الدار غير أن المجني عليه لحق به هناك وبدأ معه الشجار مرة أخرى ضرب المتهم المجني عليه بزجاجة فارغة ملقاة على الأرض على الرأس حتى تحطمت وبقي عنقها في يده ثم تعارك المتهم والمجني عليه وسقطا على الأرض وعندما فض الشجار كانت بقع الدم على قميص المجني عليه من جهة البطن ولكن المجني عليه كان ما يزال راغبا في استمرار العراك أخذ المجني عليه للمستشفى واستمرت حالته في تحسن حتى اليوم الأول من يونيه ثم أصاب حالته تدهور أفضى به إلى الموت وكان السبب هو التهاب البريتون والالتهاب الرئوي
المحامــون
عبد المنعم مصطفى عن المتهم
الحكــــم
22/10/1972
القاضي/ محمد محمد الحسن شقاق
في يوم 15/1/1970 أدين المتهم مقدم طلب الاستئناف بشير عبد الله السلمابي أمام محكمة كبرى لارتكابه جريمة القتل تحت المادة 253 من قانون العقوبات وحكمت عليه المحكمة بالسجن لمدة ثمان سنوات
جاء في مذكرة الاستئناف التي تقدم بها محامي المتهم أن المتهم لم يصب المجني عليه بعنق زجاجة مكسورة إلا أن ذلك قد جاء على لسان شاهدين فقط أما بقية الشهود فإنهم لم يذكروا شيئا عن واقعة الإصابة بل أفادوا أن المتهم ضرب المجني عليه على الرأس بالزجاجة الفارغة وأن المتهم والمجني عليه سقطا على الأرض في حالة عراك وبعد العراك تبين لهم الدم على قميص المجني عليه ووصف المحامي الشاهدين اللذين ذكرا أن المتهم أصاب المجني عليه بأنهما غير دقيقين وأن خيالهما قد قادهما لما وصلا إليه وأضاف المحامي أنه حتى بالافتراض أن المتهم أصاب المجني عليه إلا أن الإصابة لم تكن السبب المباشر الذي قاد للوفاة وأن من المحتمل أن الوفاة كانت لسبب آخر لم يتوصل إليه الطبيب لاسيما وأن كرويات الدم البيضاء كانت عادية لدى المجني عليه قبل الوفاة مما يدحض القول أن الوفاة كانت بسبب التهاب البريتون الشئ الذي من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع ملحوظ في تلك الكرويات ثم كان من رأي المحامي أن المحكمة الكبرى قد جانبت الصواب عندما توصلت إلى أن المتهم كان قد تعدى حدود حقه في الدفاع الشرعي عن نفسه وذلك أن الطبيب ذكر أن المجني عليه كان كبير الحجم وأن قوته البدنية كانت تفوق قوة المتهم بحوالي المرة والنصف وعليه فإن هجوم المجني عليه على المتهم كان مجلبة لتخوف معقول من تسبيب الموت أو الأذى الجسيم مما ألجأ المتهم لرد العدوان عن نفسه باستعمال ما تبقى في يده من عنق الزجاجة لذا فقد كان المتهم يمارس حقه في الدفاع عن نفسه مما يستوجب إسقاط المساءلة الجنائية عنه وقبل أن تتعرض المحكمة لهذه النقاط تود أن تستعرض الوقائع باختصار حسب ما توصلت إليه المحكمة الكبرى
في مساء الرابع والعشرين من مارس 1970 كان المتهم وآخرون يلعبون الورق داخل إحدى حجرات مبنى نادي الخرطوم عندما دخل المجني عليه واتخذ موقفه خلف الكرسي الذي كان المتهم يجلس عليه فتضايق المتهم من ذلك وطلب من المجني عليه أن يبتعد عنه ولكن المجني عليه رفض وخاطب المتهم متحرشاً به وناعتاً إياه "بالفلاتي" بقوله: من متين "الفلاتة" بقوا يأمروا الناس؟ وعندما طلب الحاضرون من المجني عليه الابتعاد رد بأنه يبتعد تقديرا لهم دون سواهم –وبديهي أنه كان يقصد أن يجرح المتهم خرج المجني عليه ولكنه عاد بعد لحظات واتخذ نفس موقفه الأول فثار المتهم ورمى بالأوراق التي كانت في يده وهمّ بالخروج ولكن المجني عليه بادر بسبه وصفعه فرد المتهم الصفعة بمثلها والسباب بمثله ومرة أخرى فض الحاضرون الشجار وخرج المتهم لفناء الدار وجلس غير أن المجني عليه لحق به هناك وهجم عليه فما كان من المتهم إلا أن عاجل المجني عليه بضربه على الرأس من زجاجة فارغة كانت ملقاة على الأرض تحطمت ولم يبقى منها سوى عنقها في يد المتهم ثم تصارع المتهم والمجني عليه وسقطا على الأرض وعندما أبعدا عن بعضهما لاحظ الحاضرون بقد الدم على قميص المجني عليه الذي كان وما يزال راغباً في مواصلة الشجار ولكن الحاضرون أخذوه إلى المستشفى في المستشفى بقي المجني عليه في تحسن بعد عملية جراحية مستعجلة حتى أول يونيه ولكن صحته تدهورت بعدها حتى توفى كشف التشريح أن سبب الوفاة يعزى للالتهاب في البريتون وللالتهاب الرئوي
فيما يتعلق بالدفع الأول الذي أثاره المحامي والقائل بعدم الأخذ برواية الشاهدين "تاج السر سليمان" و "عوض فضل الله" اللذين قالا أن المتهم أصاب المجني عليه بما تبقى من الزجاجة قد تكون هذه المحكمة على استعداد لقبوله لولا أن القاعدة الأصولية في الإثبات تقضي بعدم تدخل السلطة الاستئنافية لنقض قرار المحكمة الأدنى فيما توصلت إليه من وقائع ما لم تكن هناك أسباب قوية
أما بالنسبة للدفع الثاني فإن هذه المحكمة لا تشارك ممثل الدفاع رأيه إذ أنه وإن لم يثبت أن سبب الوفاة المباشر هو الجراح التي أصابت المجني عليه فقد جاء بالشرح رقم (2) للمادة246 من قانون العقوبات ما يلي
"إذا سبب الضرر الجسماني الموت إن من أحدث ذلك الضرر يكون قد تسبب في إحداث الموت وإن كان من الممكن بالعلاج الصحيح والعناية الماهرة منع حدوث الموت"
أما بالنسبة لكرويات الدم البيضاء وأنها كانت على المستوى العادي قبل الوفاة فإن نفس الطبيب الذي أشرف على علاج المجني عليه كان قد أجرى تشريح الجثة ولكن رغم هذه فإن شكاً ما زال يقوم حول السبب المباشر للوفاة ولكن وفي ضوء ما أشرنا إليه في الشرح رقم (2) من القانون عاليه فإن المحكمة ملزمة بالقول أن الجراح التي عاناها المتهم أدت إلى الوفاة كسبب مباشر
وفيما يتعلق بحق الدفاع عن النفس فإن هذه نقطة هامة ورجت على لسان السيد محامي المتهم لقد توصلت المحكمة إلى أن المتهم كان يمارس ابتداء حقه في الدفاع عن نفسه وهذا قرار سليم وبالنظر للبينات التي تشير كلها إلى عدوان المجني عليه على المتهم والتحرش به
ثم استطردت المحكمة الكبرى لتقول أن المتهم قد تعدى حقه في الدفاع عن النفس ويبدو أن المحكمة الكبرى قد عولت كثيرا على حقيقة أن المجني عليه لم يكن يحمل سلاحاً وعلى أن رد الفعل من جانبه لم يكن ليتناسب وطبيعة الأذى الذي ألحقه به المجني عليه ولكن رد الفعل عند المتهم لم يكن موجهاً لدرء اللطمة على الوجه وإنما كان موجها لرد العدوان وما كان في مخطط المجني عليه والنتائج التي تترتب على ذلك العدوان وما كان في مخطط المجني عليه من نية وإصرار في القضاء على المتهم ضرباًَ أو خنقاً أو إلحاق الأذى به ويؤخذ هنا في الاعتبار تفوق المجني عليه على المتهم وفرة وقوة وإن محاولات المتهم لصد عدوان المجني عليه بقبضة اليد لم تجد شيئا ولا بد أن يكون في البال والتوقع أن تصرفات المتهم وردود فعله لا تكون في مثل هذه الظروف – كما يقول العلامة (رانتلال) -موزونة وزنا دقيقا وأنه ليس ملزماً أن يخفف أو يكيف دفاعه خطوة بخطوة ليناسب العدوان خلال قيام السبب المعقول بوجود الخطر من الاعتداء أن المتهم ليس ملزماً بالتراجع بل له أن يتابع خصمه حتى يزول عنه الخطر فإن أصاب المتهم مقتلا من خصمه خلال الصدام فإن ذلك القتل له ما يبرره (أنظر المؤلف السابق ذكره في مؤلفه عن القانون الجنائي الطبعة العشرين الصفحات 216-127)
إن حقيقة أن المتهم أصاب المجني عليه بعدة جروح يجب ألا تقودنا للاستنتاج أن المتهم أصاب المجني عليه عدة مرات لقد أفادنا الشهود أن المتهم كان يستعمل ما تبقى من الزجاجة المكسورة وأن ذلك الجزء من الزجاجة كانت به نتوءات ذات نهايات حادة عدة وعليه فمن الجائز أن ضربة واحدة قد أحدثت تلك الجراح مما يؤسف له أن سلطات البوليس لم تتمكن من الحصول على ذلك الجزء من الزجاجة
ولهذه الأسباب نقرر أن المتهم أصاب المجني عليه بعنق الزجاجة المكسورة وتسبب في إحداث وفاته ولكنه كان يمارس حقه الشرعي في الدفاع عن نفسه طبقا للمادة 55 من القانون وعليه أرى أن نأمر بإلغاء الإدانة تحت المادة 253 وأن يطلق سراح المتهم فورا
30/9/1972
القاضي حسين محمد حسين
إنني أتفق كليا مع المحكمة الكبرى في قرارها كما أتفق مع زميلي القاضي شقاق فيما يتعلق برده على النقطتين الأولى والثانية اللتين أثارهما السيد المحامي عن المتهم أن المتهم أصاب المجني عليه بعنق الزجاجة وتسبب في وفاته كما أن المتهم كان يمارس حقه في الدفاع عن نفسه ولكنه تجاوزذلك الحق وهذا يجعلني على وفاق مع المحكمة الكبرى لقد كان المجني عليه دون سلاح عندما بادر بضرب المتهم في ذلك النادي وكان هناك العديد من الأصدقاء كانوا سيتدخلون –كما سبق أن فعلوا- لفض الخلاف وعليه فلم يكن هناك خطر على حياة المتهم في تلك الظروف أو احتمال حدوث أذى جسيم عليه وقد جاء على لسان القاضي Coleridge J في هذا المضمار أنه "إذا وجه شخص ضربة لآخر فإن لذلك الآخر المعتدى عليه أن يدفع عن نفسه بتوجيه ضربة مماثلة للمعتدي ولكن ليس له أن يتشفى أو ينتقم وإذا كان خطر العدوان ما زال ماثلا فإن المعتدى عليه إذا وجه ضربة للمعتدي لم تملها ضرورة الدفاع عن النفس يكون مرتكباً لجريمة التهجم ومن الخطأ الشائع أن نفرض أن من حق الشخص أن يضرب آخر قام بضربه بغرض الانتقام" ومثل هذا الخطأ كثيراً ما يجول بأذهان الناس ولهذا عمدت إلى توضيح رأي القاضي كلوردج في هذا الموضوع
في هذه القضية ضرب المتهم المجني عليه بالزجاجة حتى تهشمت على رأسه فلم يكن هناك مبرر لالحاق المزيد من الأذى على شخص أعزل في وقت كان فيه الحاضرون بالمكان يسرعون لفض النزاع إن حق الدفاع عن النفس ليس رخصة لتسبيب الموت في كل الأحوال لقد جاء في القانون الهندي أن القتل ليس له ما يبرره إلا الضرورة وذلك حسب ما جاء في المرجع القانوني الجنائي الهندي للعلامة قور الطبعة الثالثة صفحة 686 وفي الصفحة 690 من نفس المرجع نجد أن الشروط الأساسية الواجب توفرها لاثبات حق الدفاع عن النفس إلى درجة تسبيب الموت عمدا هي " (2) أن يكون هناك خطر وشيك الوقوع على حياة الإنسان أو أذى جسيم عليه سواء كان ذلك الخطر حقيقة أو ظاهرياً بحيث يحقق اعتقاداً صادقاً بأن هناك ضرورة (لتسبيب القتل)
إن الاعتداء على آخر من شخص غير مسلح في ناد عم يعج بالناس لا يمكن اعتباره خطرا وشيك الوقوع
لهذه الأسباب فإنه من رأيي أن نؤيد هذه المحكمة قرار المحكمة الكبرى
أما فيما يتعلق بالعقوبة أرى أنها تميل إلى التشديد نوعا ما إن هناك ثلاث استثناءات في القانون وردت في هذه القضية وهي الاستفزاز والمشاجرة الفجائية وتخطي حق الدفاع عن النفس وهذه الظروف توجب تخفيف عقوبة السجن ولهذ1 أرى أن تعدل العقوبة إلى عقوبة السجن لمدة أربع سنوات فقط
22/10/1972
القاضي مهدي الفحــل
بعد اطلاعي على مذكرتي القاضيين شقاق وحسين أرى أنني أتفق وما جاء بمذكرة القاضي حسين التي ورد فيها أن المتهم لا يصح أن يعفى من المساءلة الجنائية فمن رأيي أن المتهم تخطى حقه في الدفاع عن نفسه بأن أصاب المجني عليه عدة مرات بما تبقى في يده من الزجاجة المكسورة وعليه فإن الإدانة تحت المادة 253 من قانون العقوبات صحيحة
كذلك أجدني على وفاق مع القاضي حسين في تقديره للعقوبة بأربع سنوات