سابقة منشورة بمجلة 1971
سابقة منشورة بمجلة 1971
المحكمــة العليـــا
القضــاة:
صاحب السعادة/ السيد خلف الله الرشيد رئيس المحكمة العليا رئيساً
سعادة السيد/ هنري رياض سكلا قاضي المحكمة العليا عضواً
حكومة السودان ضــد كــوات أنــور جونــق
م ع/م ك/378/72
المبادئ
قانون الإثبات – الاعتراف القضائي – لا يصح الإدانة بموجبه إذا كان مخالفا للوقائع
قانون العقوبات – القتل العمد- المادة 251 من قانون العقوبات – الدية وتخفيف العقوبة- دفع الدية لا يحول دون إجراء المحاكمة- المادة 207 من قانون الإجراءات الجنائية
-1-
لا يجوز الأخذ بالاعتراف القضائي والإدانة بموجبه إذا كان مخالفا للوقائعولكن للمحكمة سلطة مطلقة في الأخذ باعتراف المتهم في حق نفسه إذا ما اطمأنت لذلك بعد سماع الوقائع والأدلة
-2-
الدية: عرف قبلي لدى بعض القبائل في السودان يتعلق دفعها بتقدير العقوبة ولا تكون الدية إذا دفعت سببا مانعاًَ في إجراء المحاكمة
قبل سنوات خلت كانت قبيلتا المتهم والمجني عليه على غير وفاق بسبب عراك قبلي قتل على أثره عشرة أشخاص من قبيلة المجني عليه وستة من قبيلة المتهم
وفي مرحلة لاحقة التقى بعض أفراد قبيلة المجني عليه بعم وابن عم المتهم فقتلوهما ثأراً للعشرة الذين قتلوا وليرتفع عدد قتلى قبيلة المتهم إلى عدد مقارب للعشرة
وفي يوم الحادث كان هناك بعض من أفراد قبيلة المجني عليه حلوا ضيوفا على شيخ القرية "مليت شمبر" وهو من قبيلة المتهم وعند دخولهم مقر الشيخ وجدوا المتهم وآخرين وعند تعرفهم على المتهم أصروا على الخروج وخرج منهم اثنان وبقي ثلاثة كان من بينهم المجني عليه بحربة أصابت منه مقتلا
الحكـــــم
19/10/1972
انعقدت محكمة كبرى بأويل بتاريخ 7/8/1972 لمحاكمة المتهم كوت أتور جونق تحت المادة 251 من قانون العقوبات لاتهامه بإزهاق روح المجني عليه أكين أقوانق وادانته المحكمة حسب مادة الاتهام وحكمت عليه بالإعدام
ولم يتقدم المتهم بطعن من الحكم الصادر في 7/8/1972 إلا بتاريخ 28/8/1972
وتتلخص الوقائع الجوهرية للقضية في أنه قبل أربع سنوات من وقوع الجريمة على أدنى تقدير نشبت مشاجرة بين قبيلة باديو التي ينتمي إليها المتهم وقبيلة باليو التي ينتمي إليها المجني عليه أكين أقوانق ونتج من جرائها وفاة عشرة أفراد من قبيلة المجني عليه وستة أشخاص على الأقل من جانب قبيلة المتهم وبعد أيام من تلك المشاجرة رحل عم المتهم وولده إلى قبيلة باليو إذ كان متزوجاً بامرأة فيها فقام أفراد قبيلة باليو بقتل ذلك العم وولده أخذاً بالثأر حتى يرتفع عدد القتلى من جانب القبيلتين إلى عدد مقابل أو مماثل ولم يقبض البوليس على أحد من أفراد القبيلتين كما لم يقدم أحدهم إلى المحاكمة بعد بل لم يتدخل سلطان المنطقة بول دينق في الأمر
وفي 25/4/1971 حضر خمسة أشخاص من قبيلة باليو إلى قرية سفاها وانتهى بهم التجوال بالقرب من راكوبة شيخ الحلة مليت شمبر شاهد الاتهام الثاني ولما دخلوا في صحبته إلى الراكوبة كان المتهم كوات أتور جونق وقنق أنقدي ابن وكيل السلطان – الشاهد الثالث- جالسين على برش وقدم مليت شمبر إناء ماء لبعض ضيوفه ولكنهم ما لبثوا أن تحققوا بأن المتهم من القبيلة المعادية لهم التي لم تخمد نيران ثأرهم معها فقاموا بدفع الماء وطالبوا بأن يدلهم مليت على مورد للماء ليشربوا منه أو تمسكا بسبب للهروب من المأزق الذي وجدوا أنفسهم فيه فخرج مليت بصحبة نفرين وظل ثلاثة منهم في مواجهة المتهم وقنق أنقوي وعندئذ قال الأخير للمتهم "ما تخلي الناس ديل" فقام المتهم فجأة ممسكاً بحربته كما أمسك قنق أنقوى بحرابه وقام المجني عليه وصاحباه فزعين فرمى المتهم المجني عليه بحربة إنغرست في جسمه ومع ذلك جرى مسافة خمسين ياردة تقريباً ثم سقط على الأرض ميتاً
هذه هي الوقائع بإيجاز حسبما تبين من الأوراق ومن الحكم الذي أصدرته المحكمة الكبرى
والطعن المقدم من المتهم بعد فوات الميعاد القانوني لا يتعرض للمساس بالحكم ولكنه يثير دفعا مؤداه أنه لا تجوز محاكمته بعد أن استلم السلطان ثلاثين بقرة من أبقاره كدية وفقا للعرف السائد في قبيلة الدينكا وأن تلك الأبقار لا تزال بيد السلطان
ويبدو من مطالعة الحكم أنه حرر على وجه مختصر وعلى صورة لا تتفق تماماً مع أحكام المادة 243 من قانون الإجراءات الجنائية التي توجب على المحكمة أن تذكر في الحكم المسألة أو المسائل المطلوب الفصل فيها والقرار الصادر فيها وأسباب القرار ذلك أن حكم المحكمة الكبرى قد دونت الحيثيات فيه كما يلي (هل ارتكب المتهم جريمة القتل العمد – نعم: باعتراف المتهم نفسه) ثم استطرد يقول:
(هل قتل المتهم كوات المجني عليه أكين أقوانق طعنا بالحربة؟ نعم يقول الشاهد الثاني أن الشبان الخمسة نزلوا في ضيافته في راكبوته عند شاطئ نهر سفاها في موسم صيد السمك فقام الشاهد بواجب الضيافة ثم تركهم في الراكوبة بينما كان المتهم يجلس في نفس الراكوبة وأخذ الشاهد مليت اثنين من الضيوف وذهب معهم لإحضار ماء وحصلت جريمة القتل في غيابه لم ينف المتهم ما جاء في أقوال الشاهد كما أشار الشاهد الثالث في أقواله أنه كان مصابا بألم في عينه وكان بداخل الناموسية عندما سمع صوتاً يقول بافتخار "شال الول بتاعي" أي أخذ حربتي في جسمه وجرى بها
لم يعترض المتهم على هذا القول ولكن المتهم أشار في أقواله أن الشاهد الثالث قنق هو الذي حرضه على ارتكاب الجريمة بقوله (الجماعة ديل ما تخليهم) وظاهر من ذلك أن المحكمة قد قطعت بإدانة المتهم بالجريمة التي قدم للمحاكمة من أجلها لاعترافه بأنه مرتكبها دون أن تتعرض لوقائع الدعوى أو تبسطها للبحث كمسائل يتعين الفصل فيها كما لم تفحصها وتمحصها لكن تتحقق من توافر الجريمة كما هي في معروفة في القانون ولم تتعرض للأدلة الواردة في الدعوى ومفادها في الإثبات على وجه الدقة كما أن أخذها باعتراف المتهم كدليل في الإثبات جاء مقتضباً ومبتوراً لو لا استطرادها بعد ذلك وذكر أقوال الشاهدين التي تلقي الضوء على بعض وقائع الدعوى ويمكن أن يستخلص من هذه الأقوال استخلاصا سائغا صحة اعتراف المتهم بالأفعال المسندة إلى المتهم مما يكفي لحمل الحكم وتأييده إعمالاً للفقرة (ط) من المادة (6) وإلا كان من المتعين نقض الحكم للقصور في التسبب والإخلال بأحكام المادة 243 من قانون الإجراءات الجنائية ذلك لأن قانون الإجراءات الجنائية وإن قيد المحكمة في الاستمرار في إجراءات الدعوى رقم اعتراف المتهم بارتكابه جريمة القتل إلا أنه ليس في القانون ما يفيد المحكمة بعد سماع القضية وفقاً للإجراءات المعتادة من أن الحكم بإدانة المتهم باعترافه متى اطمأنت إلى ثبوت الواقعة المسندة إليه لأن الاعتراف في المسائل الجنائية دليل كغيره من أدلة الإثبات وهو دليل كاف للإدانة إن توافرت فيه شروطه القانونية
ولما كان يبين من الأوراق أن المتهم قد سلم عن طواعية واختيار بما وجه إليه من اتهام بقتل المجني عليه في جميع المراحل: التحقيق والمحاكمة وحتى في الطلب المقدم منه لهذه المحكمة وأنه لم يدفع بأن اعترافه كان وليد وعد أو وعيد أو نتيجة إكراه أو إغراء ولما كانت المحكمة الكبرى قد تحققت من سلامة ذلك الاعتراف واطمأنت إلى مطابقته للحقيقة والوقائع فإنه لا تترتب على المحكمة أن أقامت قضاءها بالإدانة على الاعتراف الصريح من المتهم
صحيح أنه من المقرر أنه لا يصح إدانة إنسان ولو بناء على اعترافه متى كان ذلك مخالفا للواقع والحقيقة ولكنه من المقرر أيضاً أن لمحكمة الموضوع سلطة مطلقة في الأخذ باعتراف المتهم في حق نفسه متى اطمأنت بعد سماع وقائع الدعوى وأدلتها إلى صحة الاعتراف ومطابقته للحقيقة والواقع
ولما كان يبين من أقوال المتهم أنه بعد وفاة عمه وابن عمه قد عزم على الثأر من أفراد قبيلة تاليو وأنه لما تحقق من أن المجني عليه أحد أفرادها سدد حربته لجسم المجني عليه قاصداً إزهاق روحهوأن الموت كان نتيجة مرجحة لفعله فإن المتهم يكون قد ارتكب جريمة القتل العمد وفقا للمادة 251 من قانون العقوبات وليس في الأدلة ما يمكن أن يستخلص منه أن المتهم كان في حالة دفاع شرعي أو أن القتل كان نتيجة استفزاز شديد مفاجئ أو أثناء عراك مفاجئ وفقا لمقتضيات الاستثناءات الواردة في المادة 249 من قانون العقوبات ذلك أنه رغم زعم المتهم بأن شاهد الاتهام الثالث قال له "ما تخلي الناس ديل" –وهو قول لم يقم الدليل عليه- إلا أنه ذكر في استجوابه ردا على المحكمة الكبرى "أنا ما مرتبط برأي قنق فإذا لم يحصل أن حثني قنق وأنا عرفتهم من الأعداء الذين قتلوا عمي فلازم أكفي الثأر" مما يقطع في الدلالة على أن المتهم قد بيت النية على الأخذ بالثأر متى سنحت له الفرصة لذلك فإنه لا يستفيد من أي من الاستثناءات الواردة في المادة 249 عقوبات
أما دفع المتهم بأنه لا يجوز محاكمته مرتين لاستلام السلطان ثلاثين بقرة منه وتساؤله "وأنا تحاكمت فهل أتحاكم مرتين دية وإعدام؟" فمردود عليه بأن من المقرر قانونا أن دفع الدية إدارياً أو عن طريق الصلح ليس سببا لعدم محاكمة المتهم إذ السبب المانع من محاكمة الشخص مرتين هو إدانة أو براءة الشخص بواسطة محكمة مختصة وذلك هو حكم المادة 207 من قانون الإجراءات الجنائية التي تنص الفقرة الأولى منها على أن (الشخص الذي حوكم مرة أمام محكمة ذات اختصاص عن جريمة وأدين فيها أو برئ لا يكون عرضه لمحاكمة أخرى عن نفس الجريمة ما دامت الإدانة أو البراءة قائمة كما أنه لا يكون عرضة للمحاكمة بناء على الوقائع نفسها عن أية جريمة أخرى كان يمكن تحرير تهمة عنها طبقا للمادة 203 مختلفة عن التهمة التي حررت ضده أو كان يمكن إدانته فيها بمقتضى المادة 204
ولقد جرى القضاء على عدم اعتبار دفع الدية مانعا من المحكمة استناداً إلى أن توقيع العقوبة على القاتل حق للجماعة بأسرها لا يجوز التنازل عنه وإن دفع الدية وإن جاز أن يكون سبباً لتخفيف العقوبة أحيانا لدى القبائل التي يسود فيها عرف بذلك إلا أن ذلك رهين بمشيئة السلطة الاستئنافية أو السلطة العليا المصدقة على أحكام الإعدام في حالة ارتكاب المتهم جريمة تحت المادة 251 وذلك بناء على توصية من المحكمة المختصة